فی الرحیل المؤلم للصدیق نزار المزرعه

مهدی الجبوری :لم تکن لحظهً هیّنهً تلک التی یتناهى لسمعک فیها نعیُ صدیقٍ مقرّب أو فقدُ حبیبٍ مُفدّى ، إذ کیف للمرء أن یبقى عند تلقّیه النبأ متماسکاً رابطَ الجأشِ قویَّ الجَنان؟ کیف لا یُصابُ بالوجوم و الذهول؟ کیف یقاوم تلک الهزّه النفسیه أو الإنفعالیه التی تعتریه و تنتابه فورَ سماعِهِ الخبرَ الحزین؟ یصعُبُ التعایشُ […]

مهدی الجبوری :لم تکن لحظهً هیّنهً تلک التی یتناهى لسمعک فیها نعیُ صدیقٍ مقرّب أو فقدُ حبیبٍ مُفدّى ، إذ کیف للمرء أن یبقى عند تلقّیه النبأ متماسکاً رابطَ الجأشِ قویَّ الجَنان؟ کیف لا یُصابُ بالوجوم و الذهول؟ کیف یقاوم تلک الهزّه النفسیه أو الإنفعالیه التی تعتریه و تنتابه فورَ سماعِهِ الخبرَ الحزین؟ یصعُبُ التعایشُ مع هذه الأنباء المؤسفه أو التأقلم مع تلک اللحظات المؤلمه الفارقه الباعثه للتأثر و الأسى.. کما لم یکن من السهل وصفُ مشاعرِ الأصدقاء و الخِلّان عند خسارتهم لصدیقٍ محببٍّ لأفئدتهم ، عزیزٍ علیهم و إنّها لَمِنْ تلک الحالات العصیبه التی لا تطالها اللغه کی تعکس ما یدور من أحاسیسَ و أحادیثَ و أحزانٍ فی الدخائل و السرائر ،فتبقى طیَّ الکتمان ، بالکاد تترجمها الکلمات لتعبّر عمّا یجیشُ فیها و یغلی و یفور .

لقد آلمَنا جمیعاً رحیلُ الصدیق نزار المبکّر ، لقد ذهب قبل الأوان ، و الحقُّ إنّی لأجِدُ صعوبهً بالغهً فی تقبُّلِ بعض الحقائق التی تشکّلُ لنا صدمه کبیره تذهلنا و تتسبّبُ فی توقّفِ قوانا العقلیه عن العمل لبعض الوقت أو لبضعِ ثوان، کحقیقه موت صدیقٍ أو حبیبٍ قد ینهارُ لوقوعها الإنسانُ و یفقدُ اتّزانَهُ النفسیَّ أو السلوکیّ من فرط الضغط أو الصعق الذی یتعرّضُ له جرّاء ذاک المصاب الجلل ، فیظلُّ منذهلاً منصعقاً واجماً لا یجدُ للکلمات جدوى .

مَن مِنّا ینسى اللحظاتِ الجمیلهَ و الذکریاتِ الخالدهَ التی انحفرت فی ذاکرتنا ، بل فی قلوبنا من فقیدنا الغالی و نحن نجالسه و نمازحه و نتبادل معه الأحادیث الودّیه فی شتّى المواقفِ و المجالسِ و المناسبات ، من حُلو حدیثه و عذب منطقه و بسمته التی لا تکاد تفارق وجهه الضاحک المبتسم .

لقد مَرَّ نزار أثناء حیاته بمحطات و مطبّات مختلفه و عانى من ظروفٍ صعبه و قاسیه کان أخطرُها المرضَ العُضالَ الذی ألمَّ به و أعاق مسیرته الحیاتیه و سلب منه صحّته و عافیته و أخضعه لفتراتٍ علاجیه طویله لم تُکلَّل بالنجاح و التعافی و قد وافاه الأجلُ المحتومُ و انتقل للرفیق الأعلى قبل أیام تارکاً أهله و أصدقاءه و زملاءه فی حزنٍ شدید .لقد ترک نزارٌ خلفه قلوباً تحبّه و عیوناً تبکیه و أقلاماً تکتب عنه لتخلّد ذکراه ، فلم یذهب نزار إذن صفرَ الیدین و لم یرحل خالیَ الوِفاض، بل فارق الحیاه مُثْقَلاً بمشاعر مُحبّیه و حلّق عالیاً فی سماء الخلود مودَّعاً و محفوفاً بترانیمِ عُشّاقه .

کان الراحلُ ناشطاً بالشأن الثقافی یهتمُّ قدرَ المُستطاعِ لدفع عجلات هذا الحقل الحیویّ نحو الأمام و کان کما لا یخفى على کل من یعرفه و تربطه به صله قرابه أو صداقه أو زماله ، کان طیّبَ القلبِ مُتّسِماً بالأریحیهِ و دَماثهِ الخُلُق ، و للأملِ فی أدبیاته معنىً آخر ، حیث یتفاءلُ و یبتسم و یضحک فی أحلک الظروف و هو راقد فی المستشفى ، خاضعاً للعلاج مُدرِکاً أنّ المرض الذی حلَّ بجسمه خبیثٌ و عُضال ، لکنه رغم ذاک انتصر للأمل و هزم الیأس و التشاؤم .

ذاک درسٌ منحه لنا نزار کی نتفاءل و نمضی قُدُماً فی الحیاه لنحقق غایاتنا و أهدافنا النبیله بحهودنا المتواصله و عقولنا الواعیه و لن نتقاعس او نستکین عن بلوغ مطالبنا السامیه فی الکرامه و الوجود .خسرنا فی الآونه الأخیره عدداً من خیره شخصیاتنا الثقافیه التی ترکت خلفها بصماتٍ لن تُنْسَى ، نأسفُ لرحیلهم و ندعوا لهم جمیعاً بالرحمه و الخلود .

ختاماً یجدر بنا أن نحیی ذکرى هؤلاء الأماجد و أن لا نَدَعَ مآثرهم و أسماءهم اللامعه یلفّها غبار النسیان ، فتکریمُ المفاخرِ و الأفذاذِ و بُناهِ المجد ، من أهمِّ سِمات الشعوب المتحضّره و الأمم المتقدّمه ، فلنستلهم منهم الدروسَ و لنلتحقْ برکبهم الماضی نحوَ الرقیّ و الازدهار .ندعوا الله تعالى لفقیدنا الغالی نزار المزرعه بالمغفره و الرضوان و لأهله و ذویه و محبّیه بالصبر و السلوان .