نار القِرَى والکرم عند العرب

یاسر زابیه : اهتمّ العرب بالنار منذ القدم ،حیث کانوا یوقدونها لأغراض مختلفه وصاحبتهم فی مناسبات عدیده کالأفراح والأتراح والأحلاف و الأمراض واللیل والصید والخوف والحروب وإکرام الضیوف. وقد حظیت باهتمام الکتّاب العرب إذ خصصوا لها فصولًا وأبوابًا وبحوثًا تناولوا فیها أخبارها و أسماءها وصفاتها وتعاریفها .وقد ذکر أبوهلال العسکری ثلاثه عشر نوعًا من النیران […]

یاسر زابیه : اهتمّ العرب بالنار منذ القدم ،حیث کانوا یوقدونها لأغراض مختلفه وصاحبتهم فی مناسبات عدیده کالأفراح والأتراح والأحلاف و الأمراض واللیل والصید والخوف والحروب وإکرام الضیوف.

وقد حظیت باهتمام الکتّاب العرب إذ خصصوا لها فصولًا وأبوابًا وبحوثًا تناولوا فیها أخبارها و أسماءها وصفاتها وتعاریفها .وقد ذکر أبوهلال العسکری ثلاثه عشر نوعًا من النیران کانت توقد عند العرب فی الجاهلیه وهی: نارالقِرى،نار الطرد،نار الوسم،نار الحرب ،نارالسلیم،نار الفداء ، نار الحِلف،نار الصید ، نار المزدلفه، نار الاستمطار، نار السّعالی، نار الأسد و نار الحرتین. وقد جاء ذکر عدد منها فی کتاب “مجمع البحرین ” لناصیف الیازجـی فی مقدمته السادسه المعروفه بالخزرجیه:

أولُ نـارٍ عـنـدهـم نـارُ الـقِــرَى
وذکرُ نار الوســمِ بعـدها جـرى
ونـارُ الاســتـسـقاء والـتـحـالف
والصیدُ والحربُ لدى التزاحف
ونـار غــــدرٍ و ســـــلامـه تُـعَـد
و نـارُ راحـــلٍ کـذا نـارُ الأســد
والـنـارُ للــســلـیـم والـفــــــداء
فـجـمـلـهُ الـنـیـــران هــــــولاء.

ذکر العسکری فی کتاب الأوائل أنّ أول من أوقد نار المزدلفه هو قُصی بن کلاب.النار فی اللغه: “النار عنصر طبیعی فعّال یمثله النور والحراره المحرقه وتطلق على اللهب الذی یبدو للحاسه کما یطلق على الحراره المحرقه، والجمع نیران وأَنوُور وهی مؤنثه.”

لنار فی الأمثال:

-لادخانَ بِلانارٍ. أی مامن فتته إلا وراءها سبب.

– أشهرُ من نارٍ على عَلَمٍ. تقال لمن هو معروف ومشهور جدا.

– النارُ تحتَ الرّمادِ. أی عدم الانخداع بظواهر الأشیاء.

نارُ القِرَى

تعدّ نار القرى من أهمّ مفاخر العرب فی العصر الجاهلی ، حیث کانوا یوقدونها لیلًا لیراها الناس لیهتدوا إلیها حتى یحصلوا على إیواء و ضیافه وإحسان الذین أوقدوها؛لأنّ للکرم قیمه إنسانیه عالیه جدًّا عند الإنسان العربی فی العصر الجاهلی ، وهی مصدر اعتزازه وفخر قومه،و یتوارثها أبًا عن جَدّ، ویسعى جاهدًاللحفاظ علیها حتى لایتعرض لمذمه الآخرین التی تفقده وجاهته ومنزلته. وما أجمل معانی الکرم السامیه التی نجدها فی خطاب حاتم الطائی لزوجته :

إِذا ما صَنَـعـتِ الـزاد فَاِلتَمِــسی لَهُ
أَکـیـلاً فَـإِنّی لَـســتُ آکِلَـهُ وَحــدی
أَخـاً طـارِقـاً أَو جـارَ بَـیـتٍ فَـإِنَّـنی
أَخافُ مَذَمّاتِ الأَحادیثِ مِن بَعدی
وَإِنّـی لَعَبـدُ الـضَـیفِ ما دامَ ثـاوِیاً
وَمـا فیَّ إِلّا تِلکَ مِن شیـمَـهِ العَبـدِ

القِرَى لغه:

القرى هو ما یُقَدَّم إلى الضیف من طعام،والٱحسان إلیه،وقرى الضیف هو إطعامه.القِرَى مصدر ثلاثی من :قَرَى،یَقرِی ،قرىً و قَریًّا و قَراءً ،فهو قارٍ والمفعول مَقرِی.قَرَى الضیفَ: أضافه وأکرمه ،أحسن إلیه،منحه القِرى والحمایه.

لاشک أنّ إکرام الضیف من مکارم الأخلاق ،وقد تحلّى بها الأنبیاء و المرسلون والصالحون ،وحثّوا الناس على التحلّی بها، وعلى المُضِیف أن یجود بالموجود ولو بشق تمره .وهذا النبیّ إبراهیم(ع) یقری ضیوفه دون تأخیر ویقدّم لهم عجلًا سمینًا مشویًا: “وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِیمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِیذٍ”. هود/۶٩.

کان العرب یوقدون نار القرى فی أمکنه مرتفعه حتى یشاهدها الضیوف من مسافات بعیده، و یهتدون إلیها .فهی تعتبر مصدر هدایه وسعاده لمن ضلّ الطریق أو واجه البرد القارس والمطر الغزیر والریاح الشدیده وماشابه ذلک من حوادث طبیعیه. وهذه الخنساء ترثی أخاها صخرًا ،وتشبّهه بالجبل الذی فوق قمته نار:

إنّ صخـرًا لَمِقدامٌ إذا رکبوا
وإنّ صخرًا إذا جاعوا لَعَقّارُ
إنَّ صَـخـرًا لَتـأتمَّ الهُـداهُ بِهِ
کأنّـهُ عَـلَـمٌ فـی رأسِــه نـارُ

وعباره ” عَلَمٌ فی رأسه نار” مثلٌ یُضرب لمن کان شهیرًا بارزًا ،وشجاعًا کریمَ النفسِ ،ذائعَ الصیتِ. والجبل نفسه لایکفی لوصف کرم صخر، فجعلت الخنساء فوق رأسه نارًا ،لیکون أکثر هدایه وشهره.یقول البوصیری فی بردته واصفًا النبیّ والمعجزات الداله على نبوته و وضوحها کالنار الموقده لیلًا فوق جبل:

دَعنی و وَصفی آیاتٍ لهُ ظهرتْ
ظهـورَ نارِ القِرَى لیـلًا على عَلَمِ

کان العرب إذا أرادوا مدح کریم أثنوا على طیب ناره،فهذا النابغه الذبیانی یقول فی هذا الشأن:

متى تأتِهِ تعشو إلى ضـوءِ نارِهِ
تجدْ خیرَ نارٍ عندها خیرُ مَوقِدِ

ویقول الأعشى فی مدح المحلّق:

لَعمـری لقد لاحـت عیـونٌ کثیـرهٌ
إلى ضــــوء نـارٍ یَـفـاعٍ تُـحــــرَقُ
تـشـبُّ الـمقـرورینَ یـصـطلیـانـها
وباتَ على الناس النّدى والمُخَلَّقُ

أول مراحل قرى الضیف فی الجاهلیه هی إظهار الفرح و السرور عند استقباله ؛ لأنّهم یرون أنّ بشاشه الوجه خیر من سخاء الکفّ.وهذا عروه بن الورد یصف هذه الحاله ، فیقول:

سَــلی الـطارِقَ الـمُعتَـرَّ یا أُمَّ مـالِکٍ
إِذا ما أَتانی بَـیـنَ قـدری وَمَجـزری
أَیُــســفِـرُ وَجــهـی إِنَّـهُ أَوَّلُ الـقِـرَى
وَأَبـذُلُ مَـعـروفـی لَهُ دونَ مُـنـکَری

ومن نماذج الکرم العربی وبالأحرى أجودهم وأقراهم هو حاتم الطائی الذی أصبح مضرب الأمثال لیس بین العرب فحسب ،وإنّما عند الأمم الأخرى أیضًا.کیف لا ،وهو القائل:

أمـاوی إنّ الـمـال غــادٍ و رائــحُ
ویبقى المالُ والأحادیثُ والذکرُ
أَمــاوِیُّ إِنّـی لا أَقـــولُ لِـســائِـلٍ
إِذا جـاءَ یَوماً حَـلَّ فی مالِنا نَزرُ

حاتم الطائی مصداق بارز للکرم العربی ،إذ کان یتلذذ بإکرام الضیف والإحسان إلیه،فعندما یجن اللیل کان یأمر غلامه أن یوقد النار لیهتدی بها من أضلّ الطریق ،خاصه إذا کان الطقس باردًا جدًّا ،واللافت فی الأمر أنّه کان یقول لغلامه : إذا أحضرت ضیفًا فأنت حرّ:

أَوقِـدْ فَإِنَّ اللَیـلَ لَیـلٌ قَـرُّ
وَالریحَ یا موقِد ریحٌ صِرُّ
عَسى یَرى نارَکَ مَـن یَمُـرُّ
إِن جَلَبَت ضَیفاً فَأَنتَ حُرُّ

من مشوقات الإنسان العربی فی العصر الجاهلی إلى الکرم نستطیع أن نذکر الجانب الأخلاقی ،إذ یعتبر العربی الکرم وقرى الضیف من مکارم الأخلاق ،وهذا العمل یربط اسمه بالکرم و شیمه الآباء والأجداد، ممّا یجعل ذکره عالیًا بین الناس، وهو مستعدّ لتقدیم الغالی والنفیس فی هذا السبیل،فیقول حاتم الطائی فی هذا الشأن:

ألم تعلمـی أنّـی إذا الـضـیـفُ نـابنی
وعزَّ القِرَى أقرِی السَّدیفَ المُسَرهَدا

تعتبر نار القرى دلیلًا مادیًّا للعابرین والضیوف والمسافرین لیهتدوا بها إلى مضارب القبائل ،ودلیلًا معنویًا أیضًا إلى إکرام الضیوف والترحاب بهم.ومن قرى الضیف أن یُحدِّث المُضِیف ضیفه ویلاطفه بکلامه ویظهر له البشاشه ویخدمه خدمه صادقه،یقول حاتم الطائی فی هذا الشأن:

أُضـاحِـکُ ضیــفی قبـلَ إنـزالِ رَحـلِهِ
ویُـخـصِـبُ عـنـدی والمَحَـلُّ جَـدیـبُ
وما الخَصبُ للأضیافِ أن یَکثُرَ القِرى
ولـکنّــما وجــــهُ الکــریــمِ خَـصــیـبُ

کانت العرب تهجو من لا یکرم ضیفه أو یتأخر فی إکرامه ، ولعل بیت الأخطل الشهیر هو أقذع بیت هجاء قالته العرب فی البخل:

قومٌ إذا استنبحَ الاضیافُ کلبهُمُ
قـالوا لأمّــهِم : بُـولـی على الـنارِ

ومن القرى أن یُعامل الضیف معامله حسنه حتى یشعر أنّه صاحب البیت، فیقول عروه بن الورد:

فِراشی فِراشُ الضَیفِ وَالبَیتُ بَیتُهُ
وَلَم یُـلـهِـنـی عَــنـــهُ غَـــزالٌ مُـقَـنَّـعُ
أُحَــدِّثُـهُ إِنَّ الـحَـدیـثَ مِـنَ الـقِــرى
وَتَعلَـمُ نَفـسـی أَنَّهُ سَـــوفَ یَـهـجَـعُ

وأنشد أبو فراس الحمدانی قائلًا:

إِذا مَـــرَرتَ بِــوادٍ جـاشَ غــارِبُــهُ
فَاعقِل قُلوصکَ وَانزِل ذاکَ وادینا
وَیُـصبِـحُ الـضَیـفُ أَولانـا بِمَنــزِلِنا
نَرضـى بِذاکَ وَیَمضی حُکمُهُ فینا

وقال حسین بن حمدان الخصیبی:

یـاضـَیـفَـنا لَـو زُرتَنــا لَـوَجَـدتنـا
نحنُ الضّیوف وأنتَ ربُّ المنزلِ

وستبقى فضیله قرى الضیف سمه أصیله من سمات العرب یتوارثونها أینما وُجِدوا و جیلًا بعد جیل، لتحکی قصه کرم قومٍ یتفانون فی مکارم الأخلاق ویبذلون الغالی والنفیس فی سبیل المبادئ.

 

المصادر:
القران الکریم
المعاجم اللغویه
الأوائل لأبی هلال العسکری
مجمع البحرین لناصیف الیازجی
دیوان الخنساء
دیوان حاتم الطائی
دیوان عروه بن الورد
دیوان الأعشى
دیوان أبوفراس الحمدانی
دیوان النابغه الذبیانی
دیوان الأخطل